الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد”
يتساءل بعضهم لماذا يُسَمُّون ابنَ تيمية بشيخ الإسلام ؟!
ولأن هذا السؤال كَثُرَ طُلَّابُه ويطول جوابه ؛ فرأيت أن أضع كلامًا لرجل عاصر ابنَ تيمية ورآه، وتحدث عنه.
يقول صلاح الدين الصفدي:
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم.
الشيخ الإمام الْعَلَّامَة المُفَسِّرُ المُحَدِّث المجتهد الحافظ شيخ الإسلام، نادرة العصر، فريد الدهر، تقي الدين أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين بن الأمام مجد الدين أبي البركات بن تيمية.
وبالغ وأكثر، وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب ونسخ عدة أجزاء، وسنن أبي داود، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والتأله، ثم أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه.
تمذهب للإمام أحمد بن حنبل، فلم يكن أحد في مذهبه أنبه ولا أنبل. وجادل وجالد شجعان أقرانه، وجدّل خصومهُ في وسط ميدانه، وفرّج مضائق البحث بأداةٍ قاطعة، ونصر أقوالهُ في ظلمات الشكوك بالبراهين الساطعة، كأنَّ السُّنة على رأس لسانه، وعلوم الأثر مساقة في حواصل جنابه، وأقوال العلماء مجلوةٌ نُصب عيانه. لم أر أنا ولا غيري مثل استحضاره، ولا مثل سبقه إلى الشواهد وسرعة إحضاره، ولا مثل عزوه الحديث إلى أصله الذي فيه نقطةُ مداره.
وأما علم الأصلين فقهاً وكلاماً، وفهماً فكان عجباً لمن يسمعه، ومُعجزاً لمن يُعد ما يأتي به أو يجمعه. يُنزل الفروع منازِلها من أصولها، ويرد القياسات إلى مآخذها من محصولها.
وأما الملل والنحل، ومقالات أرباب البدع الأُول، ومعرفةُ أرباب المذاهب، وما خصوا به من الفتوحات والمواهب، فكان بَحْرًا يتموج، وسهمًا ينفذ على السواء لا يَتَعَوَّج.
وأما المذاهب الأربعة فإليه في ذاك الإشارة، وعلى ما ينقله الإحاطة والإدارة. وأما نقل مذاهب السَّلف، وما حدث بعدهم من الخلف، فذاك فنُّه، وهو في وقت الحرب مجنُّه، قل أن قطعه خصمُه الذي تصدى له وانتصب، أو خلص منه مناظرهُ إلا وهو يشكو من الأين والنَّصب.
وأما التفسير فيدُه فيه طولى، وسردُه فيه يجعل العيون إليه حُولاً. إلا أنه انفرد بمسائل غريبة، ورجَّح فيها أقوالًا ضعيفة عند الجمهورُ معيبة. كاد منها يقع في هُوَّة، ويسلم منها لما عنده من النيّة المرجوَّة، والله يعلم قصده، وما يترجّح من الأدلة عند وما دمر عليه شيء كمسألة الزيارة، ولا شنّ عليه مثلها إغارة، دخل منها إلى القلعة مُعتقلا، وجفاه صاحبه وقلا، وما خرج منها إلا على الآلة الحدبا، ولا درج منها إلا إلى البقعة الحدبا، والتحق باللطيف الخبير، وولّى والثناء عليه كنشر العبير.
وكان ذا قلم يسابقُ البرق إذا لمع، والودق إذا همع، يُملي على المسألة الواحدة ما شاء من رأس القلم، ويكتب الكرَّاسين والثلاثة في قعدة، وجدُّ ذهنه ما كل ولا انثلم، قد تحلى بالمُحلى، وتولّى من تقليده ما تولى، فلو شاء أورده عن ظهر قلب وأتى بجملة ما فيه من الشناع والثَّلب.
وضيع الزمان في ردّه على النصارى والرافضة، ومن عائد الدين أو ناقضه؛ ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم.
وكان من صغره حريصًا على الطلب، مُجِدًّا على التحصيل والدأب، لا يؤثرُ على الاشتغال لذة، ولا يرى أن تضيع لحظةٌ منه في البطالة فذّة، يذهلُ عن نفسه ويغيب في لذّة العلم عن حسه، لا يطلب أكلُا إلا إذا أحضر لديه، ولا يرتاحُ إلى طعام ولا شراب في أبرديه.
قيل: إن أباه وأخاه وأهله وآخرين ممن يلوذون بظله سألوه أن يروح معهم يوم سبت ليتفرج، فهرب منهم وما ألوى عليهم ولا عرج، فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلُّفه، وتركه لاتباعهم وما انفرده من تكلُّفه، فقال: أنتم ما نزيد لكم شيئاً ولا تجدد، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد، وكان ذلك كتاب ” جنة الناظر وجنّة المناظر “، وهو مجلد صغير، وأمره شهير.
لا جرم أنه كان في أرض العلوم حارثًا وهو همام، وعلومُه كما يقول الناس تدخل معه الحّمام. (أي أن علومه كانت في صدره، إشارة إلى قوة وكثرة حفظه) هذا إلى كرم يضحك البرقُ منه على غمائمه، وجودٍ ما يصلحُ حاتمٌ أن يكون في فضِّ خاتمه، وشجاعة يفرّ منها قشورة، وإقدام يتأخر عنه عنترة. دخل على محمود غازان وكلمه كلاماً غيظاً بقوه، وأسمعه مقالاً لا تحملّه الأبوةُ من البنوّة.
وأول ما اجتمعت أنا به كان في سنة ثماني عشرة، وهو بمدرسته في القصاعين بدمشق المحروسة، وسألته مسألة مشكلةً في التفسير في الإعراب، ومسألة مشكلة في الممكن والواجب، وقد ذكرت ذلك في ترجمته في تاريخي الكبير. ثم اجتمعت به بعد ذلك مرّات، وحضرت دروسه في الحنبلية، فكنت أرى منه عجباً من عجائب البرّ والبحر، ونوعاً فرداً وشكلاً غريباً وكان كثيراً ما ينشد قول ابن صردر.
تموتُ النفوسُ بأوصابها … ولم تشكُ عُوّادها ما بها
وما أنصفت مُهجةٌ تشتكي … أذاها إلى غير أحبابها
نقلته باختصار من كتاب “ أعيان العصر وأعوان النصر “ لصلاح الدين الصفدي
قلت: لا شك أن من يقرأ كلام الصفدي سيعلم جَيِّدًا أننا نتحدث عن نادرة من نوادر الأمة الإسلامية ، وأحد أكبر وأنبل فرسان دينها العظيم.
رجل ذكي نابغة ، جمع علم العقيدة والحديث والرجال والأصول والفقه والجهاد في سبيل الله
ولي تعليق يسير على كلام الصفدي في مسألة الزيارة ، فابن تيمية جاء موافقًا للنص النبوي الصحيح الصريح: { لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد } ، أما مخالفوه فتحدثوا بالعاطفة دون دليل.
ولا شك أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مع متابعته أولى وأفضل من محبته دون متابعة.
فالله يقول: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا }.
وقال سبحانه وتعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }.
ولكن لأن الصفدي يخالف شيخ الإسلام في هذه المسألة فاعتبرها من أخطائه !
وأما قول الصفدي إن ابن تيمية ضيَّع عمره في الرد على الرافضة والنصارى ومعاندي الدين فغير صحيح ؛ وكل العاملين في حقل دعوة الرافضة والنصارى إلى الإسلام والرد على ملاحدة والزنادقة محتاجون اليوم لعلم ابن تيمية في هذا الباب. ولو لم يصنع ابن تيمية شيئًا في حياته إلا منهاج السنة النبوية ، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، ودرء تعارض العقل والنقل لكان كافيًا جدا لخدمة الإسلام العظيم.
يكفيك ما قاله ابن حجر العسقلاني عنه في تقريظه للرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي، قال:
[ وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس ، وتلقيبه بـ ” شيخ الإسلام ” في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية ، ويستمر غداً كما كان بالأمس ، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره ، أو تجنب الإنصاف ، فما أغلط من تعاطى ذلك وأكثر عثاره ، فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا ، وحصائد ألسنتنا بمنِّه وفضله ]
والحمد لله رب العالمين ،،،،