الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد !!
فقد ادَّعَى بَعْضُ مَنْ ينسبون أنفسهم إلى العِلْم أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام سَمَحَ للنصارى أن يقوموا بصلاتهم في مسجده !!
واستدلوا بما ذَكَرَه ابنُ هشامٍ في السيرة النبوية قال:
[ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِدَهُ حَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَاتِ ، جُبَبٌ وَأَرْدِيَةٌ، فِي جَمَالِ رِجَالِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ.
قَالَ: يَقُولُ بَعْضُ مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ: مَا رَأَيْنَا وَفْدًا مِثْلَهُمْ، وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقَامُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُمْ، فَصَلَّوْا إلَى الْمَشْرِقِ ].(1)
قلت:
الاستدلال بهذه الرواية غير صحيح، وذلك للأسباب التالية:
أولا: هذه الرواية مخالِفَة للقرآن الكريم، لأن الله عز وجل يقول عن المساجِد: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ }.(2)
فالمساجد بيوت الله، وأمر سبحانه وتعالى أن تُبْنَى هذه المساجدُ لِيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ سبحانه وتعالى، وليس لِيُكْفَرَ فيها بالله جَلَّ وَعَلَا.
وقال جل جلاله: { وأنَّ المساجِدَ لله فلا تدعوا مع الله أَحَدًا }.(3)
فلا يجوز أن يُعْبَدَ أَحَدٌ أو يُدْعَى أَحَدٌ من دون الله في مساجد الله!!
والكل يَعلَم أنَّ النصارى يَعبدون نبيَّ عيسى المسيحَ عليه السلام ويدعونه من دون الله.
بل جاء في هذه الرواية أن هؤلاء النصارى قالوا عن المسيح أنه: [ هُوَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ: هُوَ وَلَدُ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ].(4)
إذًا فلا يجوز أن يُعْبَدَ ويُدْعَى غيرُ الله في مساجد الله جَلَّ وعلا، فكيف نقبل أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم مخالفًا لهذا الحُكْمِ الإلهيِّ الواضِح؟!
ثانيًا: نحن المسلمين لا نقبل في ديننا ما لا يصح سَنَدُهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسند هذه الرواية غير صحيح نهائيًا، فهي من رواية محمد بْن جعفر بْن الزبير بن العوام الأسدي، وهي رواية مُعْضَلَة.
والحديث الـمُعْضَل هو الحديث الذي سقط من إسنادِه روايانِ على التوالي!!
وهذا الـمُعْضَل من أقسام الحديث الضعيف.
وسأضرب للقارئ الكريم مثالًا عن الإعضال في سند الرواية حتى يتضح المقال، فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عَنْ: [… مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ…].(5)
في هذه الرواية نجد شخصينِ بين محمد بن جعفر بن الزبير وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1. عباد بن عبد الله بن الزبير.
2. أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
إذًا، فإذا روى محمد بن جعفر بن الزبير رواية دون أن يذكر الواسطة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه الرواية سقط من إسنادها راويانِ على التوالي، وهذا يسمّى إعضال في سند الرواية.
فلا ينبغي أن نأخذ برواية محمد بن جعفر بن الزبير طالما أنه لم يذكر الواسطة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن هذا انقطاعٌ وَاضِحٌ في سَنَدِ الرواية !!
وأول شرط من شروح صحة الحديث هو اتصال السند، وطالما أن السند مُعْضَل منقطع فالرواية ضعيفة.
قال الإمام صلاح الدين العلائي:
[ قال ابنُ عبدِ البر وقال سائرُ أهلِ الفقه وجماعاتُ أهل الحديث فيما علمت: الانقطاع في الأثر عِلَّةٌ تمنع من إيجاب العمل به، وسواء عَارَضَهُ خَبَرٌ مُتَّصِلٌ أم لا ]. (6)
وأما الرواية التي يستدل بها هؤلاء على جواز صلاة النصارى في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم يذكر لنا محمد بن جعفر السند بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام.
وذلك محمد بْن جعفر بْن الزبير بن العوام متوفى سنة 113 هجرية، فهو من الطبقة السادسة من الرواة، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني.(7)
وهذه الطبقة هي طبقة أتباع التابعين، وهؤلاء قال عنهم الحافظ ابنُ حَجَر في ” مقدمة التقريب “: إنهم طبقة عاصروا الطبقة الخامسة، لكن لم يثبت لهم لقاءُ أحدٍ من الصحابة ].(8)
ثالثًا: لقد حَكَمَ بعضُ العلماء المحققين على هذه الرواية بالضعف!
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي:
[ هذا مُنْقَطِعٌ ضعيف، لا يُحْتَجُّ بمثله ].(9)
ويقول محققا زاد المعاد، الشيخانِ شعيب وعبد القادر الأرنؤوط:
[ رجاله ثقات، لكنه منقطع ].(10)
رابعا: المضحك أنَّ مَن يستدل بهذه الرواية – مثل وسيم يوسف وأحمد الغامدي وغيرهما – هم أنفسهم الذين يطعنون في سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيحة الثابتة، ومع طعنهم في السنة الصحيحة الثابتة يستدلون بروايات ضعيفة كهذه الرواية المتهالكة !!
خامسًا: المضحك أكثر أن الذين يستدلون بهذه الرواية عمموا الحكم على جميع النصارى، في حين أنهم هم أنفسهم الذين يقولون إن الآياتِ المكفرةَ للنصارى خاصةٌ بالنصارى الذين كانوا على عَهْد الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وليست عامةً على جميع النصارى !!
فانظر كيف يتلاعب القوم بدين ربهم جل في علاه في الوقت الذي يزعمون أنهم يدافعون عنه ضد المتشددين والمتطرفين والغلاة !!
سبحان الله، يبيعون دِينَهُم بدُنيا غيرهم !!
سادسًا: مع أننا أثبتنا بُطلان متن هذه الرواية لمخالفتها للقرآن الكريم، وأثبتنا بطلان إسْنَادِها بسبب الإعضال، لكننا سنفترض صحة هذه الرواية من باب إلزام هؤلاء !!
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب هذه الرواية كان يدعو هؤلاء النصارى إلى الإسلام وقال لهذين الأسقفين: [ أَسْلِمَا]. وأثْبَتَ لهما عليه الصلاة والسلام بُطلانَ دينهم ؛ فهل الذين يُرَوِّجُون لهذه الرواية الضعيفة يَجْرُؤون أصلا على مناقشة النصارى في صحة دينهم وصحة كتابهم أو دعوتهم لاعتناق الإسلام ؟!
بل تقول بقية هذه الرواية إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأكبر علماء النصارى إنهم كذبوا على الله!! قال: [كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكُمَا مِنْ الْإِسْلَامِ دُعَاؤُكُمَا للَّه وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ، وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ].
فهل يجرؤ الذين يستدلون بهذه الرواية أن يقولوا لبابا الفاتيكان إنه يكذب على الله؟! هل يجرؤ وسيم يوسف أن يقول لبابا النصارى تواضروس إن عقيدتهم – كنصارى – عقيدة كُفْرِيَّة باطلة عَقلًا ونقلًا ؟!
سابعًا: وإذا أردتَ أن تضحك أكثر على عقول هؤلاء الذين يسمون أنفسهم تنويريين فأعطهم هذه الرواية القاتلة لأحلامهم المدمرة لأوهامهم:
[ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ].(11)
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا ].(12)
فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وخص منهم يهود الحجاز ونصارى أهل نجران !!
وهذا ليس الحديث ليس فقط يأمر بإخراجهم من مسجده عليه الصلاة والسلام، بل سيخرجهم من جزيرة العرب كلها، على خلاف في تفسير المراد بقوله”جزيرة العرب” بين العلماء.
ولاحظ أن هذا الكلام من أواخر ما تكلَّمَ به النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته!
فما بال هؤلاء التنويريين اخذوا بالحديث الضعيف وتركوا هذا الحديث الصحيح؟!
ثامنًا: ربما يقول بعضهم إن الإمام ابن القيم صَحَّحَ الرواية في كتاب أحكام أهل الذمة.(13)
فأقول إن ابن القيم جانبه الصواب في ذلك!
وحينما رفضنا تصحيحَ ابنِ القيمِ لهذه الرواية فهذا دليلٌ واضح على أننا لا نتبع الأئمةَ والعلماء اتباعًا أعمى كما تفترون علينا ليلا ونهارًا !!
فحينما نرفض تصحيح ابن القيم لهذه الرواية الضعيفة برهانٌ بَيِّنٌ على أننا نتبع الدليل الصحيح !!
وقد أثبتنا ضَعْفَ هذه الرواية كما تَقَدَّمَ !!
بل إن ابن القيم نفسه ينصحنا أن نتبع الدليل الصحيح ونترك كلامه إذا خالف اجتهادُه الدليلَ الصحيح !!
تاسعًا: سؤال أخير: لماذا شَدَّدَتُ النكير على المستدلين بهذه الرواية في زماننا ولم أفعل المثل مع الإمام الكبير ابن القيم رحمه الله؟!
والجواب أنه ليس مَنْ أراد الحقَّ فأخطأه كَمَنْ أَرَادَ الباطِلَ فَأَصَابَه !!
الإمام العَلَّامَة ابنُ القَيِّم رحمه الله حينما تقرأ له تعلم يقينًا أنه رجل عظيم جليل أراد الحق دومًا، فلا بأس إنْ جانبه الصواب في بعض المسائل.
وأما شيوخ السلاطين في زماننا فلا شك أنهم أرادوا الباطل فأصابوه من أوسع الأبواب !!
ثم إن ابن القيم لم يترك المسألة هكذا، وإنما يقول: [ تَمْكِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَلَاتِهِمْ بِحَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي مَسَاجِدِهِمْ أَيْضًا إذَا كَانَ ذَلِكَ عَارِضًا وَلَا يُمَكّنُونَ مِنْ اعْتِيَادِ ذَلِكَ ].(14)
لاحظ معي هذا القيد: [ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَارِضًا وَلَا يُمَكّنُونَ مِنْ اعْتِيَادِ ذَلِكَ ].
فهل المروِّجُون لهذه الرواية يفعلون ذلك أو يتقيّدون بهذا القيد الذي ذَكَرَهُ ابنُ القيم ؟!
عاشرًا: طالما أن مُدَّعِي التنوير هؤلاء يحبون النصارى بهذه الطريقة ويخافون عليهم ؛ فلماذا لا يصارحونهم بمصيرهم إذا لم يؤمنوا ؟!
هل يعقل أن يحب المرءُ شخصًا ما ، ويعلم أن هذا الشخص يخطو خُطواتٍ ثابتةً نحو النار ؛ ثم يتركه ليقع فيها؟!
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: [ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ]. صحيح مسلم؟!
فلماذا لا ينصح وسيم يوسف هؤلاء النصارى وهو يعلم أنهم سيدخلون النار إنْ لم يؤمنوا بنبوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟!
أليس هذا غِشًّا وتلفيقًا ؟!
أما نحن فنخاف عليهم حقًا من نار جهنم، ولذلك ننقل لهم ديننا كما أنزله الله على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام بلا تزوير أو تلاعب أو تمييع !!
فيأيها اليهود والنصارى آمنوا بالله وحده لا شريك له، واشهدوا لنبيه بالرسالة لتفوزوا بالنعيم في الآخرة، ولا تصدقوا هؤلاء الذين يضللونكم عن الحق، فإنهم ما أرادوا بكم خيرًا أبدًا !!
والحمد لله رب العالمين ،،،،
حلقة مرئية عن هذه الشبهة
مراجع البحث:
(1) سيرة ابن هشام ت السقا ج1 ص574، ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر.
(2) سورة النور – الآية: 36.
(3) سورة الجنّ – الآية: 18.
(4) سيرة ابن هشام ت السقا ج1 ص575، ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر.
(5) صحيح البخاري – حديث رقم: 6822.
(6) جامع التحصيل في احكام المراسيل للإمام صلاح الدين العلائي ص35 ط دار الكتاب العربي – بيروت.
(7) تقريب التهذيب ص407، ط مؤسسة الرسالة – بيروت.
(8) المصدر السابق ص15.
(9) فتح الباري لابن رجب الحنبلي ج3 ص244، ط مكتبة الغرباء الأثرية – المدينة المنورة.
(10) زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 ص550، ط مؤسسة الرسالة – بيروت.
(11) مُسند الإمام أحمد ج3 ص221، ط مؤسسة الرسالة – بيروت.
(12) صحيح مسلم 63 – (1767).
(13) أحكام أهل الذمة ج1 ص397، طبعى دار رمادي للنشر – الدَّمَّام.
(14) زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 ص558، ط مؤسسة الرسالة – بيروت.