الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد:
فقد كتب أحد المخالفين يقول:
سيدي الكريم. نفترض أن القرآن جُمِع بين اللوحين في عهد أبي بكر ثم نسخ منه في عهد عثمان. عندي أسئلة على هذه النسخة الأصلية.
لماذا لا نجد أي بقايا لهذه النسخة ولا حتى لمصحف عثمان ؟ بالمقابل توجد بقايا قديمة للاناجيل من القرن الثالث والتوراة ستة قرون قبل الميلاد.
هاذا عن آية الرجم في قول عمر بن الخطاب ؟ كانت محفوظة في الصدور أم فقط في صدر عمر ؟
قول عائشة بنت أبي بكر أن داجنا دخل بيتها وأكل صحيفة من القرآن. هل كانت هذه الصحيفة محفوظة في الصدور أم لا ؟
هل حرق عثمان ما جمعه أبو بكر ؟ إذا نعم فلماذا وإذا لا فماذا كان مصيرها ؟
مع وجود مجمع أبي بكر ثم مصحف عثمان كيف تفسر وجود 14 قراءة معتمدة للقرآن وأكثر من ألف قراءة أخرى ؟
هل لاحظت أنك عرضت أكثر من رواية لحديث علي وهذا دليل على أن النقل الشفوي للمعلومة غير آمن 100 في 100.
هل من غير المستبعد أن يكون القرآن دخله بعض التغيير والتحريف ؟
إذا كان عمر يؤمن باللوح المحفوظ فلماذا يخشى على النسخة الأرضية للقرآن ؟ بالمقارنة مع اقتتال المبشرين بالجنة بعضهم مع بعض في معارك الفتن رغم أنهم كانوا مؤمنين ببشارتهم بالجنة إذن لا داعي أن يتقاتلوا
في ظل وجود اللوح المحفوظ هل يمكن لك أن تعدد لنا أوجه الاختلاف مع النسخة الأرضية ؟
هل مثلا سور الفاتحة والمعوذتان ضمن اللوح المحفوظ ؟ هل يتضمن آية الرجم ؟ هل يتضمن ما أكله الداجن في بيت عائشة ؟
هل هو بعدة قراءات أم بقراءة واحدة وماهي هذه القراءة من بين القراءات المتداولة اليوم ؟
هل يتضمن اللوح المحفوظ الآيات المنسوخة ؟ وشكرا لك
فأجبته بحول الله وقوته قائلًا:
أهلا وسهلا بك أيها الزميل المحترم
تقول: [نفترض أن القرآن جُمِع بين اللوحين في عهد أبي بكر ثم نسخ منه في عهد عثمان]. ولست أدري لماذا تفترض شيئا قد حَدَثَ بالفعل؟! فالرواية واضحة تمام الوضوح في صحيح البخاري وتنص صراحة على هذا الكلام!
———–
بخصوص السؤال الأول: [لماذا لا نجد أي بقايا لهذه النسخة ولا حتى لمصحف عثمان ؟].
الجواب: عدم وجود هذه النسخة في زماننا الحالي لا يعني أنها لم تكن موجودة سابقًا، والمسلمون لا يتعلَّقون بنسخة معينة للقرآن الكريم أو حتى للسنة النبوية، لأن هذه الأوراق تَبْلَى وتتفتت وتذهب، ولذلك يقوم المسلمون بشيء فريد، وهو كتابة نسخ جديدة بشكل مستمر، بشرط أن يكون عليها سماعات، ومعنى السماعات هو أن يكتب الناسِخُ نسخته سَمَاعًا على شيخه الذي يتعلم منه!
فالقرآن الكريم لا يعتمد على مجرد مخطوطات مكتوبة، بل الأصل في نقله هو التلقِّي الشَّفَهِي المباشر ثم الحفظ في الصدور.
وتستطيع يا عزيزي أن تستدل على ما قد مضى بما تراه أمام عينك الآن في هذه النقطة:
سَلْ نفسك: لماذا إذا أخطأ الإمام وهو يصلي بالناس في الصلاة يرد عليه المصلون خلفه ويصححون خطأه؟! مع أن الإمام إذا أخطأ في القراءة أثناء الصلاة فهذا لا يضر المصاحف المكتوبة، ولا يعني أبدا تغير القرآن أو تحريفه!
سَلْ نفسك: إذا ضاعت كل الكتب الموجودة على وجه الأرض، فلماذا لا يستطيع أي قوم أن يعيدوا كتابة كتابهم مرةً أخرى دون أدنى خطأ إلا المسلمون فقط ؟!
القرآن الكريم كتاب يستحيل تحريفه ولو اجتمع كل الكُفَّار لأجل ذلك.
وهذه ليست مجرد شهادة مني كمسلم مؤمن بهذا الكتاب فقط، بل هناك الكثير من أشهر الباحثين المعادين للإسلام اعترفوا بهذه الحقيقة!
ومنهم على سبيل المثال المستشرق جوزيف شاخت، يقول:
[ إن أول مصادر الشرع في الإسلام وأكثرها قيمة هو الكتاب ( يقصد القرآن), وليس هناك من شك في قطعية ثبوته وتنزهه على الخطأ على الرغم من إمكان سعي الشيطان لتخليطه, كما أنه ليس من شك أيضا أنه وصل إلينا من غير تحريف ].
أصول الفقه ص19 ط دار الكتاب اللبناني – بيروت.
لاحظ أنه أثناء اعترافه بهذه الحقيقة لم يستطع أن يمنع نفسه من الطعن في القرآن بالإشارة لقصة الغرانيق الباطلة بقوله: [على الخطأ على الرغم من إمكان سعي الشيطان لتخليطه]!
بالمناسبة، هذا المصحف يُنْسَبُ إلى عثمان رضي الله عنه:
https://waqfeya.com/book.php?bid=6934
———–
بخصوص السؤال الثاني: [ماذا عن آية الرجم في قول عمر بن الخطاب ؟ كانت محفوظة في الصدور أم فقط في صدر عمر ؟].
الجواب: آية الرجم كان يحفظها عمر وغيرُه من الصحابة، وقد نقلوها إلينا، فهي لم تضع أصلًا !!
وهذا نصُّ الآية: [والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نَكَالًا من الله والله عزيز حكيم]. مسند أبي داود الطيالسي – حديث رقم: 540
ولكنها آية منسوخة التلاوة كما جاء ذلك مُصَرَّحًا به في نفس الرواية، فيقول الصحابي أبيُّ بن كعب: [ فَرُفِعَ فِيمَـا رُفِعَ ] .
———–
بخصوص السؤال الثالث: [ قول عائشة بنتُ أبي بكر أن داجنا دخل بيتها وأكل صحيفة من القرآن. هل كانت هذه الصحيفة محفوظة في الصدور أم لا ؟].
الجواب: هذه الرواية ضعيفة، لأن في سندها راويًا اسمه محمد بن إسحاق بن يسار، وهو مدلِّس مشهور بالتدليس، ولم يصرح بالسماع من شيخه!
والرواية تقول إن هذه الصحيفة كانت تحتوي على آية الرجم، وقد بَيَّنْتُ لك أنها باقية حتى اليوم، ولكنها مما نُسِخَتْ تلاوته، قال الحافظ البيهقي:
[ آية الرجم حكمها ثابت وتلاوتها منسوخة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا ]. السنن الكبرى ج8 ص367، ط دار الكتب العلمية – بيروت.
———–
بخصوص السؤال الرابع: [هل حرق عثمان ما جمعه أبو بكر ؟ إذا نعم فلماذا وإذا لا فماذا كان مصيرها ؟].
الجواب: الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه لم يحرق الصحف التي أمر الخليفة الأول أبو بكر بجمعها، وإنما أَخَذَ هذه الصحف ونَسَخَ منها المصاحف الستة، ثم رَدَّ هذه الصحف إلى السيدة حفصة ابنة الخليفة الثاني عمر رضي الله عنهما مرة أخرى.
ورواية البخاري التي فيها الدليل على كلامي هذا عرضتها في حلقتي في الدقيقة 15:33
ويقال إن عبد الملك بن مروان أخذ هذه الصحف بعد وفاة السيدة حفصة وأحرقها.
———–
بخصوص السؤال الخامس: [مع وجود مجمع أبي بكر ثم مصحف عثمان كيف تفسر وجود 14 قراءة معتمدة للقرآن وأكثر من ألف قراءة أخرى ؟].
الجواب: القراءات الأربع عشر قراءات معتمدة قرأ بها النبيُ صلى الله عليه وسلم، وعلمها لأصحابه، ويدل على ذلك حديث هشام بن حكيم مع عمر بن الخطاب!
عن عمر بن الخطاب قال: [سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرتُ حتى سَلَّمَ، فلببته بردائه فقلت: مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟! قال هشام: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: كذبتَ، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأتَ، قال عمر: فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعتُ هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، قال عمر: فقرأتُ القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه]. رواه البخاري.
لاحظ أن الاثنين قالوا إنهما تعلما هذه القراءة من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرةً! وحينما أعاد كُلٌّ منهما القراءة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُ الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ينكر عليه!
فكل القراءات الصحيحة أوحاها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام عَلَّمَهَا لأصحابه، والصحابة بَلَّغوها وعَلَّمُوها كلها للأمة الإسلامية.
———–
الجواب: بخصوص السؤال السادس: [هل لاحظت أنك عرضت أكثر من رواية لحديث علي وهذا دليل على أن النقل الشفوي للمعلومة غير آمن 100 في 100].
أقول: تكامل الروايات ليست دليلا على جواز الشك بها، لأن الصحابي غير مُلْزَم أن يروي كل رواية كاملة بجميع ألفاظها ، فحينما يُسْأَل الصحابيُ عن شيء ما فقدْ يجيب السائل على قدر سؤاله، وقد يتوسع في الجواب، وهذا الأمر يختلف من شخص إلى آخر !، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأله أحد الصحابة عن حكم الوضوء من ماء البحر، فقال: [ هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ ]. لاحظ معي أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم احتوى على مسألتين، والجزء الأول فيه الإجابة عن السؤال: [ هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ ]، ومع ذلك لم يَكْتَفِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل أعطى السائل زيادة على الجواب بحكم آخر وهو جواز أكل أسماك البحر وحياتنه حتى لو ماتت، وهكذا يفعل الجميع، فقد يُسأَلُ أحد الصحابة عن حكم أكل ميتة البحر فيقول فقط: [ الحِلُّ مَيْتَتُهُ ]. وهذا طبعًا ليس تحريفًا للحديث أو شكًّا به.
———–
بخصوص السؤال السابع: [هل من غير المستبعد أن يكون القرآن دخله بعض التغيير والتحريف ؟].
الجواب: بل يستحيل أن يدخله تحريف أو تغيير على الإطلاق.
———–
بخصوص السؤال الثامن: [إذا كان عمر يؤمن باللوح المحفوظ فلماذا يخشى على النسخة الأرضية للقرآن ؟ ].
الجواب: لأن الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئًا هَيَّأَ الأسباب الماديَّة لحدوثه، فليس معنى أن الله حافظ لهذا الكتاب من التحريف أن يتركه المسلمون بلا عناية وجمع وتدوين وحفظ، بل نقول إن حفظ الله للقرآن الكريم من التحريف والضياع كان عن طريق تهيئة هذه الأسباب التي أدت لحفظه.
———–
بخصوص السؤال التاسع: [في ظل وجود اللوح المحفوظ هل يمكن لك أن تعدد لنا أوجه الاختلاف مع النسخة الأرضية ؟].
الجواب: تستطيع أن تفتح أي مصحف من مصاحف القراءات القرآنية، لتعرف جميع القراءات القرآنية التي أنزل الله بها القرآن الكريم، وهي عينها الموجودة في اللوح المحفوظ.
———–
بخصوص السؤال العاشر: [هل مثلا سور الفاتحة والمعوذتان ضمن اللوح المحفوظ ؟ هل يتضمن آية الرجم ؟ هل يتضمن ما أكله الداجن في بيت عائشة ؟].
الجواب: هذا السؤال أجبت عنه في السؤال السابق، فاللوح المحفوظ يحتوي على كل شيء، سواء كان القرآن الكريم بجميع قراءاته أو غيره.
وأما رواية الداجن فقد أجبتك أعلاه بأنها رواية غير صحيحة، وعلى فرض صحتها فالآية لم تضع، وإنما هي موجودة ومعروفة.
———–
بخصوص السؤال الحادي عشر: [هل هو بعدة قراءات أم بقراءة واحدة؟ وماهي هذه القراءة من بين القراءات المتداولة اليوم ؟].
الجواب: القرآن الكريم نزل بعدة قراءات ليحتمل جميع المعاني التي أراد الله سبحانه وتعالى إيصالها للبشر، وسأضرب لك مثالًا واحدًا على اختلاف القراءات لإثراء المَعنى.
في سورة البقرة يقول الله سبحانه وتعالى: { وما الله بغافل عما تَعملون}.
وقوله ( تَعملون ) خطاب للحاضرين، وجاءت نفس الآية في قراءة أخرى ( يَعملون ) وهذا الكلام عن الغائبين.
فَبَدَلًا من أن يُنَزِّلَ اللهُ آيتينِ، آية يخاطب فيها الحاضرين وآية يخاطب فيها الغائبين ؛ أنزل الله آيةً واحدةً، وأنزلها بقرائتَينِ، فأوصل لنا المعنيينِ، بأسلوب وجيز مختصر، فعرفنا أن الخطاب للحاضرين والغائبين معًا.
وهكذا أنزل الله القرآن الكريم بجميع قراءاته لتوصيل جميع المعاني المطلوب إيصالها للبشر.
———–
بخصوص السؤال الثاني عشر: [ هل يتضمن اللوح المحفوظ الآيات المنسوخة ؟].
الجواب: نعم اللوح المحفوظ يحتوي على الآيات المنسوخة وكل شيء يخطر على بالك فيما مضى وحدث أو سيحدث إلى قيام الساعة.
والدليل على ذلك هو قول النبي صلى الله عليه وسلم:
[ إن أوَّلَ ما خلقَ الله القلمُ، فقال له: اكتُبْ، قال: ربَّ، وماذا أكتُبُ؟ قال: اكتُبْ مقاديرَ كل شيءٍ حتى تقومَ الساعةُ]. سنن أبي داود (7/ 86).
أرجو أن أكون قد وُفِّقْتُ في إجابة أسئلتك، وَفَّقنا الله وإياك لما يحب ويرضى ،،،،